{قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون}




 📌 قال الله تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [التوبة:51]


يخبر تعالى أن المنافقين طلبوا فتنة المسلمين من قبل، وطلبوا الشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرفوا آراءهم، وأعملوا الحيل والمكايد؛ ليحققوا ذلك، إلى أن جاء نصر الله، وغلب دينه، وهم كارهون حصول ذلك.
ويبين تعالى أن من المنافقين من يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم حين دعاهم لغزو الروم: ائذن لي في التخلف عن الخروج، ولا تفتني برؤية نساء الروم؛ فإني لا أصبر عنهن إن رأيتهن.
ويبين تعالى أنهم قد وقعوا في الفتنة العظيمة ببقائهم في الكفر، وإثم تخلفهم عن الجهاد، وبمعصيتهم لرسول الله، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين.
ويبين تعالى أنه إن غزا المؤمنون ونصرهم الله على أعدائهم، وغنموا، ونالهم خصب في معايشهم؛ ساء ذلك المنافقين وحزنوا من أجله، وإن تصبهم مصيبة بهزيمة أو قتل أو جراح يقولوا: قد احتطنا لأنفسنا، وأخذنا حذرنا من قبل، فسلمنا؛ لعدم خروجنا معكم، وينصرفوا وهم فرحون، وأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هو سيدنا وناصرنا، وعلى الله وحده فليعتمد المؤمنون، ويفوضوا أمورهم إليه.
كما أمره تعالى أن يقول لهم: هل تنتظرون بنا إلا أن تصيبنا إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، ونحن ننتظر أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده أو بأيدينا، فانتظروا ونحن معكم منتظرون.

تفسير الآيات:

لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون (48).

مناسبة الآية لما قبلها:
لما بين الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين أنه ثبط المنافقين عن الخروج للجهاد، وبين أنهم لو خرجوا فيهم ما زادوهم إلا خبالا- بين أن هذا الذي ينطوي عليه المنافقون من الشر، كان موجودا فيهم قبل ذلك؛ قبل أن ينزل القرآن في شأنهم، وأن تطلعوا عليهم، فقال تعالى  : لقد ابتغوا الفتنة من قبل.

أي: لقد طلب المنافقون فتنة المسلمين، بصدهم عن الدين، وإفساد ما بينهم من قبل غزوة تبوك، كما فعلوا في غزوة أحد وغيرها  .

وقلبوا لك الأمور.
أي: وطلب المنافقون الشر لك- يا محمد- فصرفوا آراءهم، وأجالوا أفكارهم، وأداروا عقولهم، وأعملوا الحيل والمكايد، ساعين بذلك لإفساد أمرك، وإنكار دينك، وصد الناس عن اتباعك، وتخذيل أصحابك عنك  .

حتى جاء الحق.
أي: سعى المنافقون في ابتغاء الفتنة، وتقليب الأمور، إلى أن جاء نصر الله تعالى  .
كما قال عز وجل: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [الإسراء: 81] .
وقال سبحانه: قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد [سبأ: 49] .

وظهر أمر الله وهم كارهون.
أي: وغلب دين الله الذي أمر بالدخول فيه- وهو الإسلام- وعلا وظهر وانتصر، والحال أن المنافقين كارهون لظهوره، ويسوؤهم انتصاره وعلوه  .

ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49).

ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني.
سبب النزول:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لجد بن قيس: يا جد، هل لك في جلاد بني الأصفر؟ قال جد: أو تأذن لي يا رسول الله؛ فإني رجل أحب النساء، وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن؟! فقال رسول الله- وهو معرض عنه-: قد أذنت لك، فعند ذلك أنزل الله: ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا))  .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك، قال للجد بن قيس: يا جد بن قيس، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ قال: يا رسول الله، إني امرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن؛ فائذن لي في الجلوس، ولا تفتني! فأنزل الله عز وجل: ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا))  .

ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني.
أي: ومن المنافقين من يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى غزو الروم: ائذن لي في القعود عن الخروج معك، ولا تبتلني برؤية نساء الروم؛ فإني إن رأيتهن لا أصبر عنهن، فأقع في الإثم بسبب الخروج معكم  !!

ألا في الفتنة سقطوا.
أي: ألا إن المنافقين الذين اعتذروا عن الجهاد بسبب خوفهم من الفتنة بنساء الروم، قد وقعوا في الفتنة العظيمة ببقائهم في الكفر، وإثمهم بالتخلف عن الجهاد، ومعصية الرسول عليه الصلاة والسلام  .

وإن جهنم لمحيطة بالكافرين.
أي: وإن نار جهنم ستحيط بالكافرين يوم القيامة، وتحدق بهم من كل جانب، فليس لهم عنها مفر  .
كما قال تعالى: يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين * يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون [العنكبوت: 54-55] .

وقال سبحانه: لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش [الأعراف: 41] .
وقال عز وجل: إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها [الكهف: 29] .

وقال جل جلاله: لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون * بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون [الأنبياء: 39-40] .

وقال تبارك وتعالى: إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة [الهمزة: 8-9] .
إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون (50).

مناسبة الآية لما قبلها:
أن هذا نوع آخر من كيد المنافقين، ومن خبث بواطنهم  .
إن تصبك حسنة تسؤهم.
أي: إن غزوتم ونصركم الله على أعدائكم، وظهرتم عليهم وغنمتم، وتتابع الناس في دخول دينكم، ونالكم خصب في معايشكم؛ ساء ذلك المنافقين، وحزنوا من أجله  .
وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل.
أي: وإن تصبكم مصيبة بهزيمة أو قتل أو جراح، يقل المنافقون: قد احتطنا لأنفسنا، وأخذنا حذرنا من قبل أن يصيبكم هذا المكروه، فسلمنا لأنا لم نخرج معكم  .
ويتولوا وهم فرحون.
أي: وينصرف المنافقون- إن أصابتكم مصيبة-  وهم مسرورون بما أصابكم، ومسرورون بسلامتهم بتخلفهم عنكم  .
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون (51).

مناسبة الآية لما قبلها:
لما كان قولهم: قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون  متضمنا لتوهم القدرة على الاحتراس من القدر؛ ومبينا أنهم يفرحون بمصيبة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وبعدم مشاركتهم لهم فيها، فقال تعالى رادا عليهم في ذلك  ، بعدم اكتراث المسلمين بالمصيبة، وانتفاء حزنهم عليها؛ لأنهم يعلمون أن ما أصابهم ما كان إلا بتقدير الله لمصلحة المسلمين في ذلك، فهو نفع محض  .

قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
أي: قل- يا محمد- للمنافقين الذين يفرحون بما يصيبكم من مكروه: لن يصيبنا إلا ما قدره الله وكتبه لنا في اللوح المحفوظ  .

كما قال تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [الحديد: 22-23] .

وقال سبحانه: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله [التغابن: 11] .

وعن صهيب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له  ))  .

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة  ))  .

هو مولانا.
أي: الله هو سيدنا وناصرنا  .
وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
أي: وعلى الله وحده فليعتمد المؤمنون، ويفوضوا أمورهم إليه  .

قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون (52).
مناسبة الآية لما قبلها:
لما أجاب تعالى عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين؛ أجاب بجواب ثان، وذلك لأن المسلم إذا ذهب إلى الغزو، فإن صار مغلوبا مقتولا، فاز بالاسم الحسن في الدنيا، والثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة، وإن صار غالبا فاز في الدنيا بالمال الحلال والاسم الجميل، وهي الرجولية والشوكة والقوة، وفي الآخرة: بالثواب العظيم. وأما المنافق إذا قعد في بيته، قعد مذموما، منسوبا إلى الجبن والفشل، وضعف القلب، والقناعة بالأمور الخسيسة من الدنيا على وجه يشاركه فيها النسوان والصبيان، والعاجزون من النساء، ثم يكونون أبدا خائفين على أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وفي الآخرة إن ماتوا فقد انتقلوا إلى العذاب الدائم في القيامة، وإن أذن الله في قتلهم وقعوا في القتل والأسر والنهب، وانتقلوا من الدنيا إلى عذاب النار  .

وأيضا لما تضمن ما سبق أن سراء المؤمنين وضراءهم لهم خير؛ من حيث إن الرضا بـمر القضاء، موجب لإقبال القاضي على المقضي عليه بالرأفة والرحمة- صرح بذلك في قوله تعالى: قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين أي: وهي أن نصيب أعداءنا، فنظفر ونغنم ونؤجر، أو يصيبونا بقتل أو غيره، فنؤجر، وكلا الأمرين حسن  .

قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين.
أي: قل- يا محمد- للمنافقين الذين يفرحون بما يصيبكم من مكروه: ما تنتظرون بنا إلا أن تصيبنا إحدى الخلتين اللتين هما أحسن من غيرهما: النصر أو الشهادة  .
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادا  في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم  في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم؛ لونه لون دم، وريحه مسك، والذي نفس محمد بيده، لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده، لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل  )) 

ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا.
أي: ونحن ننتظر بكم- أيها المنافقون- أن يصيبكم الله في الدنيا بعقوبة من عنده أو بعذاب بأيدينا، فيسلطنا عليكم، فنقتلكم، إن أظهرتم نفاقكم  .

فتربصوا إنا معكم متربصون.
أي: وإذا كان الأمر كذلك إذن فانتظروا، ونحن معكم منتظرون ما الله فاعل بنا وبكم؛ فكل منا سيصير إلى ما يتربص به الآخر إليه  .

كما قال تعالى: فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ( يونس: ١٠٢)


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -