حكم الإيمان باليوم الآخر وأدلته




 حكم الإيمان باليوم الآخر وأدلته


الإيمان باليوم الآخر هو أحد أركان الإيمان الستة التي لا يكتمل إيمان العبد ولا يتحقق إلا بها.


قال الله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين [البقرة: 177] .


قال ابن كثير: (اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة، وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة) .

وقال السعدي: (ولكن البر من آمن بالله أي: بأنه إله واحد، موصوف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص. واليوم الآخر وهو كل ما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به الرسول، مما يكون بعد الموت) .


وقال الله سبحانه: ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا [النساء: 136] .

قال ابن جرير: (لا يصح إيمان أحد من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به، والكفر بشيء منه كفر بجميعه) .

وقال الشوكاني: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أي: بشيء من ذلك، فقد ضل عن القصد ضلالا بعيدا) .


وقال الله عز وجل: الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا [النساء: 87] .

قال ابن كثير: (تضمن قسما؛ لقوله: ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه وهذه اللام موطئة للقسم، فقوله: الله لا إله إلا هو خبر وقسم أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله) .


وقال السعدي: (أقسم على وقوع محل الجزاء، وهو يوم القيامة، فقال: ليجمعنكم أي: أولكم وآخركم في مقام واحد. في يوم القيامة لا ريب فيه أي: لا شك ولا شبهة بوجه من الوجوه، بالدليل العقلي والدليل السمعي؛ فالدليل العقلي ما نشاهده من إحياء الأرض بعد موتها، ومن وجود النشأة الأولى التي وقوع الثانية أولى منها بالإمكان، ومن الحكمة التي تجزم بأن الله لم يخلق خلقه عبثا، يحيون ثم يموتون. وأما الدليل السمعي فهو إخبار أصدق الصادقين بذلك، بل إقسامه عليه؛ ولهذا قال: ومن أصدق من الله حديثا كذلك أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم عليه في غير موضع من القرآن، كقوله تعالى: زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير) .

وقال الله تعالى: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون [يونس: 7، 8].


قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يخافون لقاءنا يوم القيامة، فهم لذلك مكذبون بالثواب والعقاب، متنافسون في زينة الدنيا وزخارفها، راضون بها عوضا من الآخرة، مطمئنين إليها ساكنين والذين هم عن آيات الله، وهي أدلته على وحدانيته، وحججه على عباده في إخلاص العبادة له غافلون معرضون عنها لاهون، لا يتأملونها تأمل ناصح لنفسه؛ فيعلموا بها حقيقة ما دلتهم عليه، ويعرفوا بها بطول ما هم عليه مقيمون.


أولئك مأواهم النار يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم مأواهم مصيرهم إلى النار نار جهنم في الآخرة. بما كانوا يكسبون في الدنيا من الآثام والأجرام، ويجترحون من السيئات) .


وقال الله سبحانه: ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [الحج: 6، 7].


قال ابن جرير: (يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك: هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس من بدئنا خلقكم في بطون أمهاتكم، ووصفنا أحوالكم قبل الميلاد وبعده، طفلا، وكهلا، وشيخا هرما، وتنبيهناكم على فعلنا بالأرض الهامدة بما ننزل عليها من الغيث؛ لتؤمنوا وتصدقوا بأن ذلك الذي فعل ذلك الله الذي هو الحق لا شك فيه، وأن من سواه مما تعبدون من الأوثان والأصنام باطل؛ لأنها لا تقدر على فعل شيء من ذلك، وتعلموا أن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة لا يتعذر عليها أن يحيي بها الموتى بعد فنائها ودروسها في التراب، وأن فاعل ذلك على كل ما أراد وشاء من شيء قادر لا يمتنع عليه شيء أراده، ولتوقنوا بذلك أن الساعة التي وعدتكم أن أبعث فيها الموتى من قبورهم جائية لا محالة. لا ريب فيها يقول: لا شك في مجيئها وحدوثها، وأن الله يبعث من في القبور حينئذ من فيها من الأموات أحياء إلى موقف الحساب، فلا تشكوا في ذلك، ولا تمتروا فيه) .


وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تعريفه للإيمان: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره  )) .

قال ابن عثيمين: (قوله: ((واليوم الآخر)) اليوم الآخر هو يوم القيامة، وسمي آخرا؛ لأنه آخر مراحل بني آدم وغيرهم أيضا، فالإنسان له أربع دور؛ في بطن أمه، وفي الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة وهو آخرها.


والإيمان باليوم الآخر يتضمن:

أولا: الإيمان بوقوعه، وأن الله يبعث من في القبور، وهو إحياؤهم حين ينفخ في الصور، ويقوم الناس لرب العالمين...


ثانيا: الإيمان بكل ما ذكره الله في كتابه وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون في ذلك اليوم الآخر...


ثالثا: الإيمان بما ذكر في اليوم الآخر من الحوض والشفاعة والصراط والجنة والنار؛ فالجنة دار النعيم، والنار دار العذاب الشديد...


رابعا: الإيمان بنعيم القبر وعذابه؛ لأن ذلك ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك؛ فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفئا أحد)) .


 قال المظهري: (قوله: ((كذبني ابن آدم...)) الخ، أي: خالف في القول والاعتقاد ما قلت وأرسلت به رسلي من الأخبار بإحياء الخلق بعد الموت للحساب والجزاء.


((ولم يكن له ذلك)) أي: ولم يكن ذلك التكذيب حقا وصدقا وصوابا له، بل كان خطأ وعصيانا منه؛ لأن الله تعالى أنعم أنواع الإنعام والفضل على العباد، فتكذيب العباد ربهم وخالقهم وولي نعمهم وحافظهم من الآفات، يكون على غاية القبح، بل لو خالف عبد سيده من المخلوقات أو خادم مخدومه، يكون ذلك قبيحا على غاية القبح عند الناس، فكيف لا تكون مخالفة العبد الرب قبيحة؟...

قوله: ((لن يعيدني)) يعني: من قال: لن يحييني بعد موتي كما خلقني.


وقوله: ((وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته))، ((الخلق)) هاهنا بمعنى المخلوق، والتقدير: ليس أول خلق الخلق، أي: خلق المخلوق... والباء في ((بأهون)) زائدة للتأكيد، ومعنى ((أهون)) أسهل، من ((هان يهون هونا)): إذا سهل الأمر.


و«الإعادة» مصدر أعاد يعيد: إذا رد شيئا إلى أوله، والضمير في «إعادته» يرجع إلى «الخلق»، يعني: ليس أول الخلق أسهل من إعادته، بل الإعادة أسهل من أول الخلق، فإذا كنت قادرا على خلق الخلق من غير أن كان منهم أثر ومثال، فكيف لا أكون قادرا على خلقهم بعد أن يكون منهم أثر من العظام أو اللحم أو ترابهم؟! فقال تعالى حجة عليهم: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة [الحج: 5] الآية...

والمراد بقوله: ((كذبني ابن آدم وشتمني)) هم الكفار؛ لأن المسلمين لا يقولون مثل هذا) .

وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر  )) .


قال المظهري: (قوله: ((ولا يؤمن عبد)): هذا نفي أصل الإيمان، لا نفي الكمال؛ فمن لم يؤمن بواحد من هذه الأربعة لم يكن مؤمنا.


أحدها: الإقرار بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بعثه بالحق على كافة الإنس والجن.

والثاني: أن يؤمن بالموت، يعني: يعتقد أن الدنيا وأهلها تفنى، كما قال: كل من عليها فان [الرحمن: 26] وكل شيء هالك [القصص: 88] ، وهذا احتراز عن مذهب الدهرية؛ فإنه تقول: العالم قديم باق.


ويحتمل أن يريد بالإيمان بالموت: أن يعتقد الرجل أن الموت يحصل بأمر الله تعالى لا بالطبيعة، وخلافا للطبيعي؛ فإنه يقول: يحصل الموت بفساد المزاج.


الثالث: أن يؤمن بالبعث بعد الموت، يعني: يعتقد أن الله يحشر الناس بعد الموت، ويجعلهم في العرصات للحساب


وقال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان: (أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا، فكان من مذهبهم:... أنه تبارك وتعالى يرى في الآخرة، يراه أهل الجنة بأبصارهم ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء. والجنة حق والنار حق، وهما مخلوقان لا يفنيان أبدا، والجنة ثواب لأوليائه، والنار عقاب لأهل معصيته إلا من رحم الله عز وجل. والصراط حق، والميزان حق، له كفتان، توزن فيه أعمال العباد حسنها وسيئها حق. والحوض المكرم به نبينا حق. والشفاعة حق، والبعث من بعد الموت حق) .


وقال أبو الحسن الأشعري: (أجمعوا على أن عذاب القبر حق، وأن الناس يفتنون في قبورهم بعد أن يحيون فيها ويسألون، فيثبت الله من أحب تثبيته.

وأنهم لا يذوقون ألم الموت كما قال تعالى: لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى.


وعلى أنه ينفخ في الصور قبل يوم القيامة، ويصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون.

وعلى أن الله تعالى يعيدهم كما بدأهم حفاة عراة غرلا، وأن الأجساد التي أطاعت وعصت هي التي تبعث يوم القيامة، وكذلك الجلود التي كانت في الدنيا والألسنة والأيدي والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة.

وأن الله تعالى ينصب الموازين لوزن أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه أفلح، ومن خفت موازينه خاب وخسر، وأن كفة السيئات تهوي إلى جهنم، وأن كفة الحسنات تهوي عند زيادتها إلى الجنة.

وأن الخلق يؤتون يوم القيامة بصحائف فيها أعمالهم، فمن أوتي كتابه بيمينه حوسب حسابا يسيرا، ومن أوتي كتابه بشماله فأولئك يصلون سعيرا) .

وقال أبو عثمان الصابوني: (يؤمن أهل الدين والسنة بالبعث بعد الموت يوم القيامة، وبكل ما أخبر الله سبحانه من أهوال ذلك اليوم الحق، واختلاف أحوال العباد فيه والخلق فيما يرونه ويلقونه هنالك، في ذلك اليوم الهائل من أخذ الكتب بالأيمان والشمائل، والإجابة عن المسائل، إلى سائر الزلازل والبلابل الموعودة في ذلك اليوم العظيم، والمقام الهائل من الصراط والميزان، ونشر الصحف التي فيها مثاقيل الذر من الخير والشر، وغيرها) .

وقال ابن حزم: (اتفقوا أن البعث حق، وأن الناس كلهم يبعثون) .

وقال ابن تيمية: (المسلمون: سنيهم وبدعيهم متفقون على وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) .

وقال أيضا: (معاد الأبدان متفق عليه عند المسلمين واليهود والنصارى) .

وقال ابن جزي: (فأما أصول الدين من التوحيد والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فاتفقت فيه جميع الأمم والشرائع) .


وقال ابن القيم: (الأصول الثلاثة التي اتفق عليها جميع الملل، وجاءت بها جميع الرسل: هي الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة. قال الله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة: 62] ) .


وقال السفاريني: (اعلم أنه يجب الجزم شرعا أن الله تعالى يبعث جميع العباد ويعيدهم بعد إيجادهم بجميع أجزائهم الأصلية، وهي التي من شأنها البقاء من أول العمر إلى آخره، ويسوقهم إلى محشرهم لفصل القضاء؛ فإن هذا حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، مع كونه من الممكنات التي أخبر بها الشارع) .


وقال السعدي بعد أن تكلم عن الوحدانية والرسالة: (ثم انظر إلى الأصل الثالث، وهو إثبات المعاد والجزاء كيف اتفقت الكتب السماوية والرسل العظام وأتباعهم على اختلاف طبقاتهم وتباين أقطارهم وأزمانهم وأحوالهم على الإيمان به والاعتراف التام به، وكم أقام الله عليه من الأدلة الحسية والمشاهدة ما يدل أكبر الدلالة عليه، وكم أشهد عباده في هذه الدار نماذج من الثواب والعقاب، وأراهم حلول المثلات بالمكذبين وأنواع العقوبات الدنيوية بالمجرمين، كما أراهم نجاة الرسل وأتباعهم المؤمنين، وإكرامهم في الدنيا قبل الآخرة، وكم أبطل الله كل شبهة يقدح بها في المعاد!) .


وقال ابن باز: (من الأصول الأساسية: الإيمان بالله ورسوله وتوحيده، والإخلاص له، والإيمان باليوم الآخر، وبالجنة والنار، والإيمان بجميع الرسل، وعدم التفريق بينهم، وما أشبه هذه الأصول، هذا كله مما اجتمعت عليه الرسل جميعا، وقد جاءت الكتب الإلهية كلها يصدق بعضها بعضا، ويؤيد بعضها بعضا) .

وقال ابن عثيمين: (الكتاب والسنة تدل على ثبوت الآخرة، ووجوب الإيمان باليوم الآخر، وأن للعباد حياة أخرى سوى هذه الحياة الدنيا، والكتب السماوية الأخرى تقرر ذلك وتؤكده) .


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -