مراتب القراءة بالنظر إلى سرعة الأداء وبُطئه ثلاثٌ: التحقيق، والحدر، والتدوير؛ كما قال العلامة: محمد بن الجزري - رحمه الله - في الطيِّبة:
ويُقرَأُ القرآنُ بالتحقيقِ معْ
حدرٍ وتدويرٍ وكلٌّ متَّبعْ
وهذا هو الموجز، وإليكم البيان بالتفصيل:
1- التحقيق: وهو في اللغة:
التدقيق والتأكد والإنجاز، وفي الاصطلاح: عرَّفه ابن الجزري بقوله: إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد، وتحقيق الهمزة، وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار والتشديدات، وتوفية الغنات، وتفكيك الحروف، وإخراج بعضها من بعض بالسكت والترسل، واليسر والتؤدة، وملاحظة الجائز من الوقوف، وباختصار هو: البطء والترسل في التلاوة، مع مراعاة جميع أحكام التجويد من غير إفراط.
وقال ابن الجزري - رحمه الله -: "وهو نوع من الترتيل".
قلت: ولكن لا بد أن يتحرز معها من التمطيط والإفراط في إشباع الحركات، حتى لا يتولد منها بعض الحروف، ومن المبالغة في الغنَّات إلى غير ذلك مما لا يصح.
2- الحدر: وهو في اللغة:
الإسراع، وفي الاصطلاح: عرَّفه ابن الجزري بقوله: "إدراج القراءة وسرعتها وتخفيفها بالقصر والتسكين، والاختلاس والبدل، والإدغام الكبير، وتخفيف الهمز، ونحو ذلك مما صحت به الرواية، ووردت به القراءة، مع إيثار الوصل وإقامة الإعراب، ومراعاة تقويم اللفظ، وتمكن الحروف، وباختصار هو: "إدراج القراءة وسرعتها وتخفيفها وإقامة الإعراب مع مراعاة جميع أحكام التجويد من غير تفريط".
قلت: لا بد هنا أيضًا أن يحترز القارئ من الإدماج ونقص المدود والغنات؛ فالقراءة كما قيل بمنزلة البياض، إن قلَّ صار سُمرةً، وإن زاد صار برَصًا، وروي عن حمزة أنه قال لبعض مَن سمعه يبالغ في ذلك: أَمَا عَلِمت أن ما كان فوق الجعودة فهو قطط، وما كان فوق البياض فهو برَص، وما كان فوق القراءة فليس بقراءة.
3- التدوير:
وهو في اللغة من جعل الشيء على شكل دائرة؛ أي: حلقة، وفي الاصطلاح: التوسط بين التحقيق والحدر.
• والترتيل: يعمُّها كلها؛ إذ لو كانت مرتبة مستقلة لكان التدوير والحدر ليسا ترتيلاً، وعند ذلك لا يكونانِ مما أمرنا الله -تعالى- به في قوله - سبحانه -: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾ [المزمل: 4]، وعليه تكون القراءة بهما غير جائزة.
أما وأن المراتب الثلاثة نُقِلت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا بدَّ أن يشملَهم الترتيل، فتكون كلها ترتيلاً، لكن أفضلها التحقيق مع التدبُّر، ولو كان مع قلة القراءة؛ لأن المقصود فهمه والعمل به، وما تلاوته وحفظه إلا وسيلة لذلك.
تتمة: في بيان بعض الأمور المحرَّمة التي ابتدعها القرَّاء في قراءة القرآن[1]:
اعلم - يرحمك الله - أن قرَّاء زماننا ابتدعوا في القراءة أشياء كثيرة لا تحل ولا تجوز؛ لأنها تكون في القراءة إما بزيادة على الحد المتقدم بيانه، أو بنقص عنه، وذلك بواسطة الأنغام؛ لأجل صرف الناس إلى سماعِهم، والإصغاء إلى نغماتهم.
• فمن ذلك القراءة بالألحان المطربة المرجعة كترجيع الغناء، فإن ذلك ممنوع؛ لما فيه من إخراج التلاوة عن أوضاعها، وتشبيه كلام رب العزة - تبارك وتعالى - بالأغاني التي يُقصَد بها الطرب، ولم يزل السلف - رحمهم الله - يَنْهَون عن التطريب.
• ومن ذلك شيء يسمَّى بالترقيص، ومعناه أن الشخص يرقص صوته بالقرآن، فيزيد في حروف المد حركات بحيث يصير كالمتكسِّر الذي يفعل الرقص، وقال بعضهم: هو أن يروم السكت على الساكن، ثم ينفر عنه مع الحركة في عَدْوٍ وهرولة.
• ومنها شيء يسمَّى بالتحزين؛ وهو أن يترك القارئ طباعه وعادته في التلاوة، ويأتي بها على وجه آخر كأنه حزين، يكاد أن يبكي من خشوع وخضوع، وإنما نُهِي عن ذلك لما فيه من الرياء.
• ومنها شيء يسمَّى بالترعيد، ومعناه أن الشخص يرعد صوته بالقرآن؛ كأنه يرعد من شدة برد أو ألم أصابه.
• ومنها شيء آخر يسمَّى بالتحريف، أحدثه هؤلاء الذين يجتمعون ويقرؤون بصوتٍ واحد، فيقطِّعون القراءة، ويأتي بعضُهم ببعضِ الكلمة، والآخر ببعضها الآخر، ويحافظون على مراعاة الأصوات، ولا ينظرون إلى ما يترتَّب على ذلك من الإخلال بالثواب، فضلاً عن الإخلال بتعظيم كلام الجبَّار! فكل ذلك حرام يمتنع قبولُه، ويجب ردُّه وإنكاره على مرتكبه:
حدودُ حروفِ الذكر في لفظ قارئ
بحدرٍ وتحقيقٍ ودَوْرٍ مرتَّلا
فإني رأيتُ البعضَ يتلو القرآن لا
يُرَاعِي حدودَ الحرف وزنًا ومنزلا
فمِنهم بترقيصٍ ولحنٍ وضجة
ومنهم بترعيدٍ ونَوحٍ تبدُّلا
فمَا كلُّ مَن يتلو القرانَ يُقِيمه
وَلا كُلُّ مَن يقرأ فيَقرأ مُجمِّلا
فذَرْ نُطقَ أعجامٍ وما اخترعوا بهِ
وخُذْ نطق عربٍ بالفصاحة سولا
فيا قارئَ القرآنِ، أجمِلْ أداءه
يضاعفْ لك الرحمنُ أجرًا فأجزلا
وقد بقي في الأمور المبتدعة في قراءة القرآن أشياء كثيرة أيضًا:
منها القراءة باللين والرخاوة في الحروف، وكونها غير صلبة بحيث تشبه قراءة الكسلان.
ومنها: النفر بالحروف عند النطق بها بحيث يشبه المتشاجر.
ومنها: تقطيع الحروف بعضها من بعض بما يشبه السكت، خصوصًا الحروف المُظهَرة قصدًا في زيادة بيانها؛ إذ الإظهار له حد معلوم.
ومنها: عدم بيان الحرف المبدوء به والموقوف عليه، وكثيرٌ من الناس يتساهلون فيهما حتى لا يكاد يسمع لهما صوت.
ومنها: إشباع الحركات بحيث يتولَّد منها حروف مد، وربما يفسدُ المعنى بذلك.
ومنها: أن يبلغ القارئ بالقلقلة في حروفِها رتبةَ الحركة.
ومنها: إعطاء الحرف صفة مجاورة قوية كانت أو ضعيفة.
ومنها: تفخيم الراء الساكنة إذا كان قبلها سبب ترقيقها.
ومنها: إشراب الحرف بغيرِه.
ومنها: إشباع حركة الحرفِ الذي قبل الحرفِ الموقوف عليه؛ بحيث يتولَّد منه حرف مد، وكثير من الناس يفعله.
ومنها: إبدال الحرف بغيره.
ومنها: تخفيف الحرفِ المثقل وعكسه، خصوصًا الحرف الموقوف عليه.
ومنها: تحريك الحروفِ السواكن كعكسه.
ومنها: زيادة المد في حروفِه على المد الطبيعي بلا سبب.
ومنها: النقص عن المدِّ الطبيعيِّ في حروفه، ولكن هذا النقص أفحش من تلك الزيادة؛ لأن الزيادة قد عهدت، وذلك إذا وجد السببُ وارتفع المانعُ، بخلاف النقصِ، فإنه لم يعهد في حالة أصلاً.
ومنها: المبالغة في إخفاء الحروف بحيث يشبه المد.
ومنها: ضم الشفتين عند النطق بالحروف المفخَّمة المفتوحة؛ لأجل المبالغة في التفخيم.
ومنها: شَوْب الحروف المرققة شيئًا من الإمالة، ظنًّا من القارئ أن ذلك مبالغة في الترقيق.
ومنها: الإفراط في المد والزيادة عن مقداره؛ لأن المد له حد يوقف عنده، ومقدار لا يجوز تجاوزه، ومراتبُ مختلفة بحسب تفاوتِهم في التحقيق والحدر والتوسط.
ومنها: مد ما لا مد فيه؛ كمد واو: (مالك يوم الدين)، وياء (غير المغضوب عليهم) كذلك؛ لأن الواو والياء إذا انفتح ما قبلها كانا حرفَي لينٍ لا مدَّ فيهما، ولكنهما قابلان للمد عند ملاقاة سببه، وهو الهمز أو السكون.
ومنها: تشديد الهمزة إذا وقعت بعد حرف المد، ظنًّا منه أنه مبالغة في تحقيقها أو بيانها؛ نحو: (أولئك/ يأيها).
ومنها: لَوْك الحرف ككلام السكران؛ فإنه لاسترخاء لسانه وأعضائه بسبب السكر تذهب فصاحة كلامه.
ومنها: المبالغة في نَبْر الهمز، وضغط صوتها حتى تشبه صوت المتهوِّع - المتقيِّئ - وقد أشار السخاوي إلى بعض ذلك في منظومته، فقال:
لا تحسبِ التجويدَ مدًّا مفرطًا
أو مدَّ ما لا مدَّ فيه لوانِ
أو أن تشدِّد بعد مدٍّ همزةً
أو أن تَلُوكَ الحرفَ كالسكرانِ
أو أن تفوه بهمزةٍ متهوِّعًا
فيفر سامعُها من الغَثَيانِ
للحرفِ ميزانٌ فلا تَكُ طاغيًا
فيه ولا تَكُ مخسر الميزانِ
فإذا همزتَ فجِئْ به متلطفًا
من غيرِ ما نَبْرٍ وغير توانِ
وامددْ حروفَ المدِّ عند مُسَكَّنٍ
أو همزةٍ حسنًا أخا إحسانِ
قال شارحها: فكل حرف له ميزان يعرف به مقدار حقيقته، وذلك الميزان هو مخرجُه وصفته، فإذا خرج من مخرجِه، معطًى ما له من الصفات على وجه العدل في ذلك من غير إفراط ولا تفريط، فقد وزن بميزانه، وهذا هو حقيقة التجويد، وإليه أشار الخاقاني بقوله:
زِنِ الحرفَ لا تُخرِجْه عن حد وزنِه
فوزنُ حروفِ الذكر من أفضل البرِّ
ومن الأمور المنهي عنها أيضًا عدم ضم الشفتين عند النطق بالحرف المضموم؛ لأن كل حرف مضموم لا يتم ضمه إلا بضم الشفتين، وإلا كان ضمه ناقصًا، ولا يتم الحرف إلا بتمام حركته، فإن لم تتمَّ الحركة لا يتم الحرف، وكذلك الحرف المكسور لا يتم إلا بخفض الفم، وإلا كان ناقصًا، وهو حركته، وكذلك الحرف المفتوح لا يتم إلا بفتح الفم وإلا كان ناقصًا وهو حركته، وإلى ذلك أشار العلامة الطيبي في منظومته، فقال:
وكلُّ مضمومٍ فلن يتمَّا
إلا بضمِّ الشفتين ضمَّا
وذو انخفاضٍ بانخفاضٍ للفمِ
يتمُّ والمفتوحُ بالفتح افهمِ
إذِ الحروفُ إن تكن محرَّكة
يشركها مخرجُ أصلِ الحركة
أيْ مخرجُ الواوِ ومخرجُ الألفْ
والياء في مخرجِها الذي عُرِفْ
فإن تَرَ القارئَ لن تنطبقا
شفاهُه بالضمِّ كن محققا
بأنه منتقصٌ ما ضمَّا
والواجبُ النطق به متما
كذاك ذو فتحٍ وذو كسرٍ يجبْ
إتمامُ كلٍّ منهما فافهم تُصِبْ
فالنقصُ في هذا لدى التأمُّلِ
أقبحُ في المعنى من اللحنِ الجَلِي
إذْ هو تغييرٌ لذات الحرفِ
واللحن تغييرٌ له في الوصفِ
يعني أن الحروف تنقص بنقص الحركات، فيكون حينئذٍ أقبح من اللحن الجلي؛ لأن النقص من الذوات أقبح من ترك الصفات، فتفطن - رحمك الله - واجتهد في ضبط هذه القواعد المقرَّرة وأحكامها المضبوطة المحرَّرة؛ لتفوزَ بالسعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، فإن تعلمك تجويد كتاب الله في الدنيا أيسر من عقوبتك على تركه يوم القيامة، فإن أمر الحساب عسير، والناقد بصير، فحافظ على تلاوة القرآن على وجهه المتلقَّى من خير الأنام، عسى الله إذا قَبِل منك اليسير أن يتجاوزَ عن الكثير.
يمكنك ترك رسالة هنا إذا أردت الاستفسار عن شئ