اسم الله تعالى العفو
العفوُّ سبحانه هو الذي يحب العفو والستر ، ويصفح عن الذنوب مهما كان شأنها ويستر العيوب ولا يحب الجهر بها .. يعفو عن المسيء كَرَمًا وإحسانًا ، ويفتح واسع رحمته فضلاً وإنعامًا ، حتى يزول اليأس من القلوب وتتعلق في رجائها بمقلب القلوب .
ومن حِكمة الله عزَّ وجلَّ تعريفه عبده أنه لا سبيل له إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته ، وأنه رهينٌ بحقه فإن لم يتغمده بعفوه ومغفرته وإلا فهو من الهالكين لا محالة .. فليس أحدٌ من خلقه إلا وهو محتاجٌ إلى عفوه ومغفرته ، كما هو محتاجٌ إلى فضله ورحمته .
اللهمَّ اعفُّ عنَّا واغفر لنـــا ..
ورود الاسم في القرآن الكريم : سمى الله عزَّ وجلَّ نفسه العَفوُّ على سبيل الإطلاق في خمس آيات ، في قوله تعالى : " .. فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا " [النساء:43] وقوله : " فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا " [النساء:99] وقوله:" إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا " [النساء:149] وقوله عزَّ وجلَّ : " ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُــورٌ " [الحـج:60] وقولـه تعـالى : " .. وَإِنَّهُــمْ لَيَقُـولُـونَ مُنْكَــرًا مِـنَ الْقَــوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُــوٌّ غَفُـــورٌ " [المجادلة:2] .
المعنى اللغوي للعفو :
العَفوُّ في اللغة على وزن فعُول من العَفوِ ، وهو من صيغ المبالغةِ ، يقال : عَفا يَعْفو عَفوا فهو عاف وعَفوٌّ ، والعفو يدلّ على معنيين أصليّين : 1) ترك الشّيء .. 2) طلبه ..
ومن المعنى الأوَّل عفو الله تعالى عن خلقه ، وذلك تركه إيّاهم فلا يعاقبهم ، فضلاً منه تعالى .
قال الخليل : " العفو : تركُكَ إنسانًا استوجَبَ عُقوبةً فعفوتَ عنه تعفُوِ والله العَفُوُّ الغَفور " [كتاب العين] .
وقال ابن فارس : " وقد يكون أن يعفُوَ الإنسان عن الشَّيء بمعنى الترك ، ولا يكون ذلك عن استحقاق ، ألا ترى أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام قال : " عفوت عنكم عن صَدَقة الخيل .. " [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني] فليس العفو هاهنا عن استحقاق ، ويكون معناه تركت أن أُوجِب عليكم الصّدقةَ في الخيل " [معجم مقاييس اللغة] أي : إنه لا يُشترط للعفو عن شخصٍ ما أن يكون مُستحقًا لذلك .
فالعفو هو التجاوُزُ عن الذنب وتَرْك العِقاب عليه ، وأَصله المَحْوُ والطمْس .. والعفو يأتي أيضًا على معنى الكثرة والزيادة ، فعَفوُ المالِ هو ما يَفضُل عن النَّفقة كما في قوله تعالى : " وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ " [البقرة:219] .
وَالعَفْو فِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ : " سَلُوا اللهَ العَفْو وَالْعَافِيَةَ .." [رواه الترمذي وصححه الألباني] فأَما العَفْوُ : فَهُوَ مَا وصفْناه مِنْ مَحْو اللَّهِ تَعَالَى ذُنوبَ عَبْدِهِ عَنْهُ ، وأَما الْعَافِيَةُ : فَهُوَ أَن يُعافيَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سُقْمٍ أَو بَلِيَّةٍ وَهِيَ الصِّحَّةُ ضدُّ المَرَض ، يُقَالُ : عافاهُ اللَّهُ وأَعْفَاه أَي وهَب لَهُ الْعَافِيَةَ مِنَ العِلَل والبَلايا .
وأَما المُعافاةُ : فأَنْ يُعافِيَكَ اللهُ مِنَ النَّاسِ ويُعافِيَهم منكَ ، أي: يُغْنيك عَنْهُمْ وَيُغْنِيَهِمْ عنك ويصرف أَذاهم عَنْكَ وأَذاك عَنْهُمْ ، وَقِيلَ : هِيَ مُفاعَلَة مِنَ العفوِ ، وَهُوَ أَن يَعْفُوَ عَنِ النَّاسِ ويَعْفُوا هُمْ عَنْهُ [لسان العرب] .
الفرق بين العفو والغفران :
يتمثّل الفرق بين العفو والغفران في أمور عديدة أهمّها :
- أنَّ الغفران يقتضي إسقاط العقاب ونيل الثّواب ، ولا يستحقّه إلّا المؤمن ولا يكون إلّا في حقّ الباريء سبحانه وتعالى .. " .. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ .. " [آل عمران:135] .
- أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاط اللّوم والذَّمُّ ، ولا يقتضي نيل الثَّواب ويستعمل في العبد أيضًا .
- العفو قد يكون قبل العقوبة أو بعدها ، أمّا الغفران ؛ فإنّه لا يكون معه عقوبة البتَّة ولا يوصف بالعفو إلّا القادر عليه .
- في العفو إسقاط للعقاب ، وفي المغفرة ستر للذّنب وصون من عذاب الخزي والفضيحة .
معنى الاسم في حق الله تعالى :
قال ابن جرير : " ".. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا .. " [النساء:43] أي : إن الله لم يزل عفوًا عن ذنوب عباده ، وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا به " [جامع البيان] .
وقال الزجاج : " والله تعالى عفوٌّ عن الذنوب ، تاركٌ العقوبة عليها " [تفسير الأسماء] .
وقال الخطَّابي : " العَفْوُّ : الصَّفحُ عن الذنوب ، وتركُ مُجازاة المسيء " [شأن الدعاء] .
قال الحليمي : " العَفْوُّ ، معناه : الواضعُ عن عباده تَبِعَات خطاياهم وآثارهم ، فلا يستوفيها منهم ، وذلك إذا تابوا واستغفروا ، أو تركوا لوجهه أعظم مما فعلوا ، فيُكفِّر عنهم ما فعلوا بما تركوا ، أو بشفاعة من يشفع لهم ، أو يجعل ذلك كرامة لذي حرمة لهم به ، وجزاء له بعمله " [المنهاج] .
قال السعدي : " (العَفْوُّ ، الغَفور ، الغَفَّار ) الذي لم يزل ، ولا يزال بالعفو معروفًا ، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفًا ، كل أحدٍ مضطرٌ إلى عفوه ومغفرته ، كما هو مضطرٌ إلى رحمته وكرمه ، وقد وعد بالمغفرة والعفو لمن أتى بأسبابها ، قال تعالى : " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى " [طه:82] " [تيسير الكريم الرحمن] .
يقول الغزَّالي : " العَفْوُّ : هو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي وهو قريب من الغفور ولكنه أبلغ منه ، فإن الغفران ينبيء عن الستر والعفو ينبيء عن المحو والمحو أبلغ من الستر " [المقصد الأسنى] .
وقال ابن القيم في قصيدته النونية :
وَهْوَ العَفُوُّ فعَفْوُهُ وَسِعَ الوَرَى ... لَوْلاهُ غَارَ الأَرْضُ بالسُّكَّانِ
حظ العبد من اسم الله العَفْوُّ :
1) كثرة الدعـــاء باسم الله العَفْوُّ وسؤال الله العفو والعافية :
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قلت : يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو ؟ قَالَ : " تَقُولِينَ : اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي " [رواه ابن ماجه وصححه الألباني] .
وعن أبي بكر قال : قام رسول الله على المنبر ثم بكى ، فقال : " سلوا الله العفو والعافية ، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية " [رواه الترمذي وصححه الألباني، مشكاة المصابيح] .
وعن ابن عمر قال : لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح : " اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي " [رواه ابن ماجه وصححه الألباني] .
2) الاستغفار والتوبـة والعمل الصالــح :
فمن كمال عفوه سبحانه أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثمَّ تاب إليه ورجع ، غفر له جميع جُرْمِهِ .. كما قال تعالى : " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " [الزمر:53] .
3) اعفُ يُعْفَ عنك :
وقد حثَّ الله تعالى عباده على العفو والصفح وقبول الأعذار ، وقد كان أبو بكر الصديق يتصدَّق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه ، فلما شارك المنافقين في اتهام أم المؤمنين عائشة بالإفك وبرأها الله عزَّ وجلَّ ، قال أبو بكر : " وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَال لعَائِشَةَ " فَأَنْزَل اللهُ سبحانه وتعالى : " وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " [النور:22] فَقَال أَبُو بَكْرٍ : " بَلى ، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لي " فَرَجَعَ إِلى مِسْطَحٍ الذِي كَانَ يُجْرِي عَليْهِ [البخاري] .
وقال تعالى : " وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " [الشورى:40] فاعْفُ عن الظالمين ، وأَعْرِض عن الجاهلين ، ويَسِّر علي المعسرين طلبًا لعفو الله عند لقائه .
4) التجاوز عن المُعسِر والعفو عنه ، وعدم مؤاخذته على عدم استطاعته سداد الدّين :
فعليك أن تتجاوز ، حتى يتجاوز الله تعالى عنك .. عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : " أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا ، فَقَالَ لَهُ : مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا ؟ قَالَ : وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ، قَالَ : يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ ، فَقَالَ اللَّهُ : أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي " فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ : هَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ [مسلم] .
5) عدم المجاهرة بالذنــب :
عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ : يَا فُلَانُ ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ " [متفق عليه] .
من أعظم فوائد العفو :
1) أنه يستوجب محبة الله تعالى : فإذا كنت من العافين عن الناس فإن الله تعالى سيحبك ، ويجعلك من أهل الإحسان الذين هم أعلى الناس إيمانًا .. كما في قوله تعالى : ".. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " [آل عمران:134] .
2) من عفا ، عُفِى عنه يوم القيامة إذ الجزاء من جنس العمل .
3) يُورث التقوى : يقول الله تعالى : " .. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى .. " [البقرة:237] فالعفو عن الناس من الأسباب التي تجعل العبد تقيًّا نقيًّا .
4) يقتضى غفران الله تعالى للذنب : فالعبد إذا عفا وصفح ، كان ذلك سببًا في مغفرة الله تعالى له .
5) العفو يزيد الإنسان عزًّا : فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " .. وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا " [مسلم] فكلما عفوت ، ازددت عزًّا عند الله تعالى .
6) الأجر العظيم عند الله تعالى : لقوله تعالى : " .. فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ .. " [الشورى:40] .
7) العفو يُثْمِر محبة الناس .
8) وهو دليل على كمال الإيمان وحُسن الإسلام .
9) وهو مظهر من مظاهر حُسن الخلق ، ودليل على سعة الصدر وحُسن الظن .
10) وطريق نورٍ وهدايةٍ لأهل الإيمان .
نسأل الله تعالى أن يَمُنَّ علينا بالتحلى بهذا الخُلق العظيم ... خُلُق العفو .. ونسأله جلَّ في علاه أن يعفو عنا ويغفر لنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
#أسماء_الله_الحسنى
#العفو
يمكنك ترك رسالة هنا إذا أردت الاستفسار عن شئ