حضارة العرب في الجاهلية
كلمة (الجاهلية) -التي أطلقت على هذه الحقبة الزمنية- غير مقصود بها الجهل الذي هو نقيض العلم، وإنما تعني السفه والطيش والنزق والانحراف عن طريق العبودية الصحيحة لله عز وجل، فهي تقابل كلمة الإسلام التي تدل على الخضوع والطاعة لله عز وجل وما يحمله من سلوك قويم وخلق كريم؛ لأن عرب الجاهلية -رغم بساطة عيشهم- كانوا أصحاب علم وحكمة، فقد تضلعوا في علوم كثيرة احتاجوا إليها في حياتهم اليومية، مثل علم الفلك والنجوم، ومسار الطرق عن طريق نجوم السماء كما يعرفها الناس اليوم من الأرض، وقد شهد لهم القرآن بذلك؛ قال تعالى: وعلامات وبالنجم هم يهتدون [النحل: 16] ، وكانوا على علم كبير بالقيافة وتتبع الأثر. والأخبار المروية شاهدة على ذلك، واشتهروا بالفراسة والذكاء، بل كان منهم -على قلة- من كان يعرف القراءة والكتابة، بل منهم من عرف لغات الأمم الأخرى؛ كعدي بن زيد العبادي الذي كان من أفصح الناس وأكتبهم باللغة العربية والفارسية، وأكبر علومهم ومنتهى فنونهم ما وصلوا إليه من فنون القول ونضوج اللغة.
فليس المراد بمصطلح (الجاهلية) نقيض العلم، وإنما تعني السفه والغضب والطيش والنزق، أو الجهل بالدين، ومخالفة الحق .
وبهذا المعنى يعرف ابن منظور الجاهلية بقوله: "هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام؛ من الجهل بالله سبحانه ورسوله وشرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب، والكبر والتجبر وغير ذلك" .
ولفظة الجاهلية بهذا المعنى وردت في القرآن الكريم في أربعة مواضع، وهي:
قوله تعالى: يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية [آل عمران: 154] .
وقوله تعالى: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [المائدة: 50] .
وقوله تعالى: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [الأحزاب: 33] .
وقوله تعالى: إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية [الفتح: 26] .
وأما مشتقات الكلمة، فقد وردت في القرآن الكريم في عشرين موضعا، ومنها :
قوله تعالى: يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف [البقرة: 273] ، وقوله تعالى: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون [الأنعام: 111] ، وقوله تعالى: قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون [الأعراف: 138] ، وقوله تعالى: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [الفرقان: 63] .
وجاءت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة، ومن ذلك : قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر عندما عير بلالا، وقال له يا بن السوداء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنك امرؤ فيك جاهلية )) ، وأبو ذر كان من علماء الصحابة، فلم يقصد بالجهل ما هو نقيض العلم، وإنما قصد صلى الله عليه وسلم أن فيك يا أبا ذر خلقا من أخلاق أهل الجاهلية، وهي التفاخر بالآباء، ووبخه صلى الله عليه وسلم بذلك -على عظيم منزلته ومكانته رضي الله عنه عنده صلى الله عليه وسلم-؛ تحذيرا له عن معاودة الوقوع في مثل ذلك .
وكذا وردت اللفظة في أشعار العرب، وذلك كما في معلقة عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقد كان للعرب في الجاهلية حضارة تليق بهم وبظروف حياتهم، وتدل على ذلك تلك النقوش التي تركوها ووقف عليها المستشرقون، وفكوا رموزها، وعرفوا أسرارها؛ قال ونكلر: (إن تاريخ الجزيرة العربية كما توضحه النقوش يظهر لنا مجموعة من الحكومات والدول المنظمة منذ أقدم القدم)، وقال سايس: (لم يكن المسلمون الذين انطلقوا من الجزيرة العربية، وفتحوا العالم المسيحي، وأسسوا الممالك، إلا من نسل أولئك الذين كان لهم في القدم أثر عميق في مصير الشرق)، وقال هومل: (إن الحضارة العربية الجنوبية بآلهتها ومذابحها ذات البخور، ونقوشها وحصونها وقلاعها لا بد أن تكون مزدهرة متحضرة منذ الألف الأول قبل الميلاد...) وقال: (إن أهمية العرب في الشرق القديم تكمن في مجال الحضارة والدين، ويكفي أن نذكر كلمتي البخور وعبادة النجوم؛ لندرك أثر العرب في الأمم المجاورة لهم، ولا سيما العبرانيين واليونان) .
فتبين بذلك أن العرب في الجاهلية الأولى كانت لهم حضارة واسعة الجنبات، دلت عليها النقوش والآثار التي اكتشف بعضها في اليمن؛ حيث قامت دولة معين وسبأ وحمير، وبعضها في الحجر؛ حيث وجدت لحيان وثمود، وفي البتراء؛ حيث قامت دولة الأنباط.
وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الحضارات، وما كان فيه هؤلاء الأقوام من ترف ونعيم، وما كانوا يتمتعون به من قوة ومنعة؛ قال تعالى:لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور [سبأ: 15] ، وقال تعالى واصفا قوم عاد بما أوتوه من عمارة وصنعة: كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون [الشعراء: 123 - 134] .
ويصف ما أنعم به على ثمود من الزراعة والعمارة، فيقول: كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتتركون في ما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين [الشعراء: 141 - 149]
ولما قارن سبحانه بين العرب زمان مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مع سابقيهم، ذكر أن هؤلاء اللاحقين لم يبلغوا معشار ما بلغه السابقون في الملك والنعيم والسيادة؛ قال تعالى: وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا
ومع أن الله سبحانه أهلك تلك الأمم وأباد حضاراتهم، فإن حضارة العرب لم تندثر باندثار تلك الأمم، بل بقيت لهم روافد أخرى أمدتهم بالتجديد والتطور، تمثل ذلك في الاتصال الوثيق الذي يربطهم بالحضارات الكبرى القائمة في جوارها؛ حيث كانت العرب تتصل بالفرس عند طريق إمارة المناذرة في الجزيرة، كما كانت تتصل بالروم عن طريق إمارة الغساسنة في بلاد الشام، فضلا عن أولئك الحكماء والقادة العرب الذين كانوا يفدون على كسرى وقيصر والمقوقس وغيرهم.
كما كانت التجارة كذلك وسيلة عظيمة في تبادل الحضارات والثقافات؛ حيث كانت القوافل تمر على الجزيرة العربية، وكانت أسواق العرب في الحجاز واليمن مجالا لاجتماع العربي والفارسي والحبشي وغيرهم .
يمكنك ترك رسالة هنا إذا أردت الاستفسار عن شئ